كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر وصف {المؤمن} عقب الأوصاف التي قبله إتمام للاحتراس من توهّم وصفه تعالى بـ {الملك} أنه كالملوك المعروفين بالنقائص.
فأفيد أولًا نزاهة ذاته بوصف {القدوس}، ونزاهة تصرفاته المغيَّبة عن الغدر والكَيد بوصف {المؤمن}، ونزاهةُ تصرفاته الظاهرةِ عن الجور والظلم بوصف {السلام}.
و{المهيمن}: الرقيب بلغة قريش، والحافظ في لغة بقية العرب.
واختلف في اشتقاقه فقيل: مشتق من أمَنَ الداخل عليه همزة التعدية فصار آمَن وأن وزن الوصففِ مُؤَيْمِن قلبت همزته هاء، ولعل موجب القلب إرادة نقله من الوصف إلى الاسمية بقطع النظر عن معنى الأمن، بحيث صار كالاسم الجامد.
وصار معناه: رقب: (ألا ترى أنه لم يبق فيه معنى إلا من الذين في المؤمن لمّا صار اسمًا للرقيب والشاهد)، وهو قلب نادر مثل قلب همزة: أراق إلى الهاء فقالوا: هَراق، وقد وضعه الجوهري في فصل الهمزة من باب النون ووزنه مفَعْلِل اسم فاعل من آمن مثل مُدحرج، فتصريفه مُؤَأْمِن بهمزتين بعد الميم الأولى المزيدة، فأبدلت الهمزة الأولى هاء كما أبدلت همزة آراق فقالوا: هراق.
وقيل: أصله هَيْمن بمعنى: رَقب، كذا في (لسان العرب) وعليه فالهاء أصلية ووزنه مُفَيْعل.
وذَكره صاحب (القاموس) في فصل الهاء من باب النون ولم يذكره في فصل الهمزة منه.
وذكره الجوهري في فصل الهمزة وفصل الهاء من باب النون مصرحًا بأن هاءه أصلها همزة.
وعدل الراغب وصاحب (الأساس) عن ذكر.
وذلك يشعر بأنهما يريان هاءه مبدلة من الهمزة وأنه مندرج في معاني الأمن.
وفي (المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى) للغزالي {المهيمن} في حق الله: القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه.
والإِشرافُ، (أي الذي هو الإطلاع) يرجع إلى العلم، والاستيلاءُ يرجع إلى كمال القدرة، والحفظُ يرجع إلى الفعل.
والجامعُ بين هذه المعاني اسمه {المهيمن} ولن يجتمع عَلَى ذلك الكمال والإِطلاققِ إلا الله تعالى، ولذلك قيل: إنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة. اهـ.
وفي هذا التعريف بهذا التفصيل نظر ولعله جرى من حجة الإِسلام مجرى الاعتبار بالصفة لا تفسير مدلولها.
وتعقيب {المؤمن} بـ {المهيمن} لدفع توهم أن تأمينه عن ضعف أو عن مخافة غيره، فأُعلموا أن تأمينه لحكمته مع أنه رقيب مطلع على أحوال خلقه فتأمينه إياهم رحمة بهم.
و{العزيز} الذي لا يُغلب ولا يُذلّه أحد، ولذلك فسر بالغالب.
و{الجبار}: القاهر المُكرِه غيره على الانفعال بفعله، فالله جبار كل مخلوق على الانفعال لما كوّنه عليه لا يستطيع مخلوق اجتياز ما حدّه له في خلقته فلا يستطيع الإِنسان الطيران ولا يستطيع ذوات الأربع المشي على رجلين فقط، وكذلك هو جبّار للموجودات على قبول ما أراده بها وما تعلقت به قدرته عليها.
وإذا وصف الإِنسان بالجبار كان وصف ذمّ لأنه يشعر بأنه يحمل غيره على هواه ولذلك قال تعالى: {إن تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} [القصص: 19].
فالجبار من أمثلة المبالغة لأنه مشتق من أجبره، وأمثلة المبالغة تشتق من المزيد بقلة مثل الحكيم بمعنى المحكم.
قال الفراء: لم أسمع فَعَّالًا في أفعَلَ إلا جبّارًا ودَرَّاكًا.
وكان القياس أن يقال: المجبر والمُدرك، وقيل: الجبار معناه المصلح من جبر الكَسر، إذَا أصلحه، فاشتقاقه لا نذرة فيه.
و{المتكبر}: الشديد الكبرياء، أي العظمة والجلالة.
وأصل صيغة التفعل أن تدل على التكلف لكنها استعملت هنا في لازم التكلف وهو القوة لأن الفعل الصادر عن تأنق وتكلف يكون أتقن.
ويقال: فلان يتظلم على الناس، أي يكثر ظلمهم.
ووجه ذكر هذه الصفات الثلاث عقب صفة {المهيمن} أن جميع ما ذكره آنفًا من الصفات لا يؤذن إلا باطمئنان العباد لعناية ربهم بهم وإصلاح أمورهم وأن صفة {المهيمن} تؤذن بأمر مشترك فعقبت بصفة {العزيز} ليعلم الناس أن الله غالب لا يعجزه شيء.
وأتبعت بصفة {الجبار} الدالة على أنّه مسخر المخلوقات لإِرادته ثم صفة {المتكبر} الدالة على أنه ذو الكبرياء يصغر كل شيء دون كبريائه فكانت هذه الصفات في جانب التخويف كما كانت الصفات قبلها في جانب الإِطماع.
{المتكبر سبحان الله عَمَّا}.
ذيلت هذه الصفات بتنزيه الله تعالى عن أن يكون له شركاء بأن أشرك به المشركون.
فضمير {يشركون} عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين لم يزل القرآن يقرعهم بالمواعظ.
{هُوَ الله الخالق البارئ المصور}.
القول في ضمير {هو} المفتتح به وفي تكرير الجملة كالقول في التي سبقتها.
فإن كان ضمير الغيبة ضميرَ شأن فالجملة بعده خبر عنه.
وجملة {الله الخالق} تفيد قصرًا بطريق تعريف جزأي الجملة هو الخالق لا شركاؤهم.
وهذا إبطال لإلهية ما لا يخلق.
قال تعالى: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون} [النحل: 20]، وقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17]، وإن كان عائدًا على اسم الجلالة المتقدم فاسم الجلالة بعده خبر عنه و{الخالق} صفة.
و{الخالق}: اسم فاعل من الخلق، وأصل الخلق في اللغة إيجاد شيء على صورة مخصوصه.
وقد تقدم عند قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير} الآية [49] في سورة آل عمران.
ويطلق الخلق على معنى أخص من إيجاد الصور وهو إيجاد ما لم يكن موجودًا.
كقوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام} [ق: 38].
وهذا هو المعنى الغالب من إطلاق اسم الله تعالى: {الخالق}.
قال في (الكشاف): المقدر لما يوجده.
ونقل عنه في بيان مراده بذلك أنه قال: لما كانت إحداثات الله مقدرة بمقادير الحكمة عبر عن إحداثه بالخلق. اهـ.
يشير إلى أن الخالق في صفة الله بمعنى المحدث الأشياء عن عدم، وبهذا يكون الخلق أعم من التصوير.
ويكون ذكر {البارئ} و{المصور} بعد {الخالق} تنبيهًا على أحوال خاصة في الخلق.
قال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} [الأعراف: 11] على أحد التأويلين.
وقال الراغب: الخلق التقدير المستقيم واستعمل في إيداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء. اهـ.
وقال أبو بكر ابن العربي في (عارضة الأحوذي) على (سنن الترمذي): {الخالق}: المخرج الأشياء من العدم إلى الوجود المقدر لها على صفاتها (فخلط بين المعنيين) ثم قال: فالخالق عام، والبارئ أخص منه، والمصور أخص من الأخص وهذا قريب من كلام صاحب (الكشاف).
وقال الغزالي في (المقصد الأسنى): الخالق البارئ المصور قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة ولا ينبغي أن يكون كذلك بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى تقدير أولًا، وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيًا، وإلى التصوير بعد الإِيجاد ثالثًا، والله خالق من حيث أنه مقدِّر وبارئ من حيث إنه مخترع موجود، ومصور من حيث إنه مرتبٌ صور المخترعات أحسن ترتيب. اهـ.
فجعل المعاني متلازمة وجعل الفرق بينها بالاعتبار، ولا أحسبه ينطبق على مواقع استعمال هذه الأسماء.
و{البارئ} اسم فاعل من بَرَأَ مهموزًا.
قال في (الكشاف) المميز لما يوجده بعضه من بعض بالأشكال المختلفة. اهـ.
وهو مغاير لمعنى الخالق بالخصوص.
وفي الحديث: «من شر ما خلق وذرأ وبرأ» ومن كلام علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمة، فيكون اسم البريئة غير خاص بالناس في قوله تعالى: {أولئك هم شر البريئة أولئك هم خير البريئة} [البينة: 6، 7].
وقال الراغب: البريئة: الخلق.
وقال ابن العربي في (العارضة): {البارئ}: خالق الناس من البرَى (مقصورًا) وهو التراب خاصًا بخلق جنس الإِنسان، وعليه يكون اسم البريئة خاصًا بالبشر في قوله تعالى: {أولئك هم شر البريئة} {أولئك هم خير البريئة}.
وفسره ابن عطية بمعنى الخالق وكذلك صاحب القاموس.
وفسره الغزالي بأنه الموجود المخترع، وقد علمت أنه غير منطبق فأحسن تفسير له ما في (الكشاف).
و{المصور}: مكوّن الصور لجميع المخلوقات ذوات الصور المرئية.
وإنما ذكرت هذه الصفات متتابعة لأن من مجموعها يحصل تصور الإِبداع الإلهي للإِنسان فابتدئ بالخلق الذي هو الإِيجاد الأصلي ثم بالبرء الذي هو تكوين جسم الإِنسان ثم بالتصّور الذي هو إعطاء الصورة الحسنة، كما أشار إليه قوله تعالى: {الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة} [الانفطار: 7، 8]، {الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} [آل عمران: 6].
ووجه ذكرها عقب الصفات المتقدمة، أي هذه الصفات الثلاث أريد منها الإِشارة إلى تصرفه في البشر بالإِيجاد على كيفيته البديعة ليثير داعية شكرهم على ذلك.
ولذلك عقب بجملة {يسبح له ما في السموات والأرض}.
واعلم أن وجه إرجاع هذه الصفات الحُسنى إلى ما يناسبها مما اشتملت عليه السورة ينقسم إلى ثلاثة أقسام ولكنها ذكرت في الآية بحسب تناسب مواقع بعضها عقب بعض من تنظير أو احتراس أو تتميم كما علمته آنفًا.
القسم الأول: يتعلق بما يناسب أحوال المشركين وأحلافِهم اليهود المتألبين على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بالحرب والكيد والأذى، وأنصارهم من المنافقين المخادعين للمسلمين.
وإلى هذا القسم تنضوي صفة {لا إله إلا هو} [الحشر: 23] وهذه الصفة هي الأصل في التهيؤ للتدبر والنظر في بقية الصفات، فإن الإِشراك أصل الضلالات، والمشركون هم الذين يُغرون اليهود، والمنافقون بين يهود ومشركين تستروا بإظهار الإِسلام، فالشرك هو الذي صدّ الناس عن الوصول إلى مسالك الهدى، قال تعالى: {وما زادوهم غيرَ تتبيب} [هود: 101].
وصفة {عالم الغيب} [الحشر: 22] فإن من أصول الشرك إنكار الغيب الذي من آثاره إنكار البعث والجزاء، وعلى الاسترسال في الغي وإعمال السيئات وإنكار الوحي والرسالة.
وهذا ناظر إلى قوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} [الأنفال: 13] الآية.
وكذلك ذكر صفات (المَلِك، والعزيز، والجبار، والمتكبر)، لأنها تناسب ما أنزله ببني النضير من الرعب والخزي والبطشة.
القسم الثاني: متعلق بما اجْتناه المؤمنون من ثمرة النصر في قصة بني النضير، وتلك صفات: {السلام المؤمن} [الحشر: 23] لقوله: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} [الحشر: 6]، أي لم يتجشم المسلمون للغنى مشقة ولا أذى ولا قتالًا.